سورة النساء »
تفسير قوله تعالى " وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل "
( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ( 161 ) لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ( 162 ) )
( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ) في التوراة ( وأكلهم أموال الناس بالباطل ) من الرشا في الحكم ، والمآكل التي يصيبونها من عوامهم ، عاقبناهم بأن حرمنا عليهم طيبات ، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرم عليهم شيء من الطيبات التي كانت حلالا لهم ، قال الله تعالى : " ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون " ( الأنعام - 146 ) ، ( وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما )
( لكن الراسخون في العلم منهم ) يعني : ليس كل أهل الكتاب بهذه الصفة ، لكن الراسخون البالغون في العلم أولو البصائر منهم ، وأراد به الذين أسلموا من علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ، ( والمؤمنون ) يعني : المهاجرون والأنصار ، ( يؤمنون بما أنزل إليك ) يعني : القرآن ، ( وما أنزل من قبلك ) يعني : سائر الكتب المنزلة ، ( والمقيمين الصلاة ) اختلفوا في وجه انتصابه ، فحكي عن عائشة رضي الله عنها وأبان بن عثمان : أنه غلط من الكتاب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة وكذلك قوله في سورة المائدة " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون " ( المائدة - 62 ) ، وقوله " إن هذان لساحران " ( طه - 63 ) قالوا : ذلك خطأ من الكاتب . [ ص: 310 ]
وقال عثمان : إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيره؟ فقال : دعوه فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا .
وعامة الصحابة وأهل العلم على أنه صحيح ، واختلفوا فيه ، قيل : هو نصب على المدح ، وقيل : نصب بإضمار فعل تقديره : أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة ، وقيل : موضعه خفض .
واختلفوا في وجهه ، فقال بعضهم : معناه لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة ، وقيل : معناه يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة ، ثم قوله : ( والمؤتون الزكاة ) رجوع إلى النسق الأول ، ( والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) قرأ حمزة سيؤتيهم بالياء والباقون بالنون .
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
{ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) }
يخبر، تعالى، أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة، حَرّم عليهم طيبات كان أحلها لهم،
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المُقْرِي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عَمْرو، وقال: قرأ ابن عباس: "طيبات كانت أحلت لهم".
وهذا التحريم قد يكون قدريا، بمعنى: أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم، وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم، فحرموها على أنفسهم، تشديدًا منهم على أنفسهم وتضييقًا وتنطعا. ويحتمل أن يكون شرعيًا بمعنى: أنه تعالى حَرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك، كما قال تعالى: { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } [آل عمران: 93]
وقوله: { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } أي: أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه، واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه، وأكلوا أموال الناس بالباطل. قال تعالى: { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
ثم قال تعالى: { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ } أي: الثابتون في الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع. وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران.
{ وَالْمُؤْمِنُونَ } عطف على الراسخين، وخبره { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ }
قال ابن عباس: أنزلت في عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية. وأسد وزيد بن سعية وأسد بن عبيد، الذين دخلوا في الإسلام، وصدقوا بما أرسل الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } هكذا هو في جميع المصاحف الأئمة، وكذا هو في مصحف أُبَيّ بن كعب. وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود: "والمقيمون الصلاة"، قال: والصحيح قراءة الجميع. ثم رَدّ على من زعم أن ذلك من غلط الكُتَّاب (1) ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم: هو منصوب على المدح، كما جاء في قوله: { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } [البقرة: 177]، قالوا: وهذا سائغ في كلام العرب، كما قال الشاعر (2) :
لا يَبْعَدَن قومي الذين همُو ... سُمّ (3) العداة وآفة الجُزرِ ...
النازلين بكل مُعَْتركٍ ... والطَّيّبُونَ مَعَاقِدَ الأزْرِ ...
وقال آخرون: هو مخفوض عطفا على قوله: { بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ } يعني: وبالمقيمين الصلاة.
وكأنه يقول: وبإقامة الصلاة، أي: يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم، أو أن المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة، وهذا اختيار ابن جرير، يعني: يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وبالملائكة. وفي هذا نظر والله أعلم.
وقوله: { وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال، ويحتمل زكاة النفوس، ويحتمل الأمرين، والله أعلم.
{ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: يصدقون بأنه لا إله إلا الله، ويؤمنون بالبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.
وقوله: { أُولَئِكَ } هو الخبر عما تقدم { سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } يعني: الجنة.
__________
(1) في د، ر، أ: "الكاتب".
(2) وهي الخرنق بنت بدر بن هفان، والبيت في ديوانها: (29) أ. هـ مستفاد من مطبوعة الشعب.
(3) في ر: "أزد" وفي أ: "أسد".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق